بقلم/ محمد سعيد ابو النصر
بينما أشاهد التلفاز، وجدت برنامجًا يتحدث عن الفراسة ،وقراءة الوجه فلم أعره اهتمامًا ، ثم إذ بي أجد برنامجًا آخَر ، ثم وجدت صفحات علي الفيس بوك بنفس هذا المعنى ، فعنَّ لى هذا السؤال : هل ما أراه وأشاهده هي الفراسة التي أخبر عنها النبي بقوله ": اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل..ومن هو الشخص الذي يرى بنور الله،وما هي مواصفاته ؟ وهل يمكن أن يكون شخصًا غير ملتزم أو امرأة متبرجة ..هل يمكن أن تكون صاحبة الفراسة امرأة كالبلياتشو وضعت على وجهها نصف مساحيق الأرض ،وأطلت بلباس ضيق خليع ..هل هذه هي التي ترى بنور الله ،إن الذي يرى بنور الله هم أولياؤه،فالله يقذف النور في هذه القلوب لتنطق بالحق ،والنور يشاهد على صفحة الوجه ،وفي مخارج الصوت ،وهؤلاء الصنف من الناس لا يعرضون فراستهم للقنوات ،ولا إيمانهم لمن يدفع أكثر ،إن الإيمان لا يباع ،والفراسة لا تعرض على شاشات التلفزيون لتتحدث عن تفاهات بعض البشر ،إن الفراسة ليس لها علاقة بالظن والتخمين والفهلوة ،وكأننا في مسرح حواة ،أصحاب الفراسة يروا بنور الله ،وأظن أن وهج هذا النور ينطفأ تحت بريق الشاشات ،وإذا أرادوا أن يتحدثوا عن الله وأحكامه فمدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا ، وليست الفراسة منها .
إن صاحب الفراسة لا بد أن يكون مستقيما وغاضا لبصره ، فمن غض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، وعمر باطنه بالمراقبة ، وتعود أكل الحلال ، لم تخطئ فراسته فكلما زادت تقوى المؤمن ألهمه الله تعالى التبصر بالأمور وسرعة الفهم ومن شروطها الاستقامة وغض النظر عن المحارم ، فإن المرء إذا أطلق نظره تنفست نفسه الصعداء في مرآة قلبه فطمست نورها { وَمَنْ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }سورة النور / 40 ]والحق سبحانه وتعالى يجازي العبد على عمله من جنسه ، فمن غض بصره عن المحارم عوضه إطلاق نور بصيرته .
هذا تمهيد عن الموضوع .
فما هي الفراسة لغة واصطلاحا ،وما مقاييسها؟وماأقسامها ؟ هل فراسة المؤمن معتبرة شرعا؟ وهل تعتبر الفراسة من وسائل الإثبات ؟
الفراسة لغة :
الفراسة بكسر الفاء هي : النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به ، يقال : تفرست فيه الخير : تعرفته بالظن الصائب ، وتفرس في الشيء : توسمه"
وفي الحديث : اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله عز وجل .
و الفراسة اصطلاحًا :
هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية ، وأيضا هي ما يقع في القلب بغير نظر وحجة .
أقسام الفراسة:
قسم ابن الأثير الفراسة إلى قسمين :
الأول : ما دل ظاهر هذا الحديث عليه اتقوا فراسة المؤمن وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه ، فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات وإصابة الظن والحدس .
الثاني : نوع يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس
مقاييس الفراسة :
- الفراسة نوعان :
1- نوع من المعرفة تحصل للإنسان دون سبب ، فهي ضرب من الحدس .
2- ونوع يكون نتيجة التعلم والتجربة .
أما الأول فليست له مقاييس يستعملها المتفرس ، وإنما تتم هذه المعرفة بنور الله تعالى كما جاء في الحديث النبوي السابق ، ومن شروطها الاستقامة وغض النظر عن المحارم ،فمن غض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشهوات ، وعمر باطنه بالمراقبة ، وتعود أكل الحلال ، لم تخطئ فراسته .
وأما النوع الثاني ، وهو الفراسة المكتسبة ، فإنها تنطلق من ملاحظة الصفات الظاهرة في أبدان الناس ، وتتبع حركاتهم للتعرف من خلالها على أحوالهم الباطنة ، وهي وإن اشتركت مع النوع الأول في بعض هذا فإنها تختلف عنها بما وضعه لها القائلون بها من مقاييس وعلامات .
على أن الأحكام المتوصل إليها بالفراسة ظنية يمكن أن يصدقها الواقع ، ويمكن أن يحصل ما هو قريب منها أو عكسها .
وفي كل الأحوال فإنه لا تأثير لها في حياة الناس بالتفاؤل أو التشاؤم والشعور بالشقاء أو السعادة ، وينبغي أن تستعمل فيما ينفع الناس في حدود ما أجازه الشرع .
هل فراسة المؤمن معتبرة شرعا؟
-فراسة المؤمن معتبرة شرعا في الجملة ، لقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ }[سورة الحجر 75] قال القرطبي في تفسير قوله تعالى { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } روى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " للمتفرسين "
ولقوله صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله .
ونقل القرطبي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد ، فقال أحدهما : أراه نجارا ، وقال الآخر : بل حدادا ، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال : كنت نجارا وأنا اليوم حداد .
ومن ذكاء وفراسة إياس بن معاوية المزني أنه "جاء إليه رجل فقال: إني أودعت عند فلان مالاً، وقد جحدني. فقال له: اذهب الآن، وائتني غدًا، وبعث من فوره إلى ذلك الرجل الجاحد. فقال له: إنه قد اجتمع عندنا ها هنا مالٌ فلم نر له أمينًا نضعه عنده إلا أنت فضعه عندك في مكان حريز. فقال له: سمعًا وطاعة، فقال له: اذهب الآن. وائتني غدًا.وأصبح ذلك الرجل صاحب الحق فجاء فقال له: اذهب الآن إليه فقل له أعطني حقي وإلا رفعتك إلى القاضي، فقال له ذلك. فخاف أن لا يودع إذا سمع الحاكم خبره فدفع إليه ماله بكامله وجاء إلى إياس فأعلمه.ثم جاء ذلك الرجل في الغد رجاء أن يودع عنده؛ فانتهره إياس وطرده، وقال له: "أنت خائن".
وقيل :"إنَّ رجلاً استودع غيرَه مالاً فجحده، فرفَعَه إلى إياس، فسأله فأنْكر، فقال للمدَّعي: أين دفعتَ إليه مالك؟ فقال: في مكان كذا في البرية، فقال: وما كان هناك؟ قال: شجرة، قال: اذهبْ إليها؛ فلعلَّك دفنتَ المال عندَها ونسيت، وقال للخَصْم: اجْلِسْ حتى يرْجِعَ صاحبك، وإياس يَقْضي إليه وينظر ساعةً بعدَ ساعة، ثم قال: يا هذا أترى صاحبَك قد بلَغ مكان الشجرة؟ قال: لا، قال: يا عدوَّ الله، إنَّك خائن، قال: أقِلْني، قال: لا أقالك الله، وأمَر أن يحتفظَ به حتى جاءَ الرجل، فقال له إياس: اذهبْ معه فخُذْ حقَّك.
• وقيل :إنَّ رجلين اختصمَا إليه، فقال أحدهما: إنَّه باعني جارية رَعْناء، فقال: وما عسى أن تكونَ تلك الرعونة؟ فقال: شِبه الجنون، فقال إياس: يا جارية أتذكُرين متى وُلدتِ؟ قالت: نعم، قال: فأي رِجليك أطول؟ قالت: هذه، فقال إياس: رُدَّها؛ فإنَّها مجنونة.
اعتبار الفراسة من وسائل الإثبات :
هل يمكن اعتبار الفراسة من وسائل الإثبات ؟
- للمتفرس المؤمن الأخذ بفراسته في خاصة نفسه ما لم يؤد ذلك إلى محظور شرعي .
أما فيما يتصل بحقوق العباد فقد اختلف الفقهاء في اعتبار الفراسة من وسائل الإثبات في القضاء أو عدم اعتبارها :
فذهب الطرابلسي من الحنفية وابن العربي وابن فرحون من المالكية إلى عدم جواز الحكم بالفراسة ؛ لأنه حكم بالظن والحزر والتخمين ، ووصف الحاكم الذي يعتمد ذلك في أحكامه بالفسق والجور ، لأن الظن يخطئ ويصيب ، ولأن مدارك الأحكام معلومة شرعا مدركة قطعا ، وليست الفراسة منها .
وذهب قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد إلى الأخذ بالفراسة والحكم بها ، جريا على طريقة إياس بن معاوية في قضائه ، وذهب إلى هذا ابن القيم وقال : ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات ، فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارا.