بقلم: حسن عصام الدين طلبة
دق على الباب فى الموعد الذى إختاراه .. وراح يتلفت حوله فى قلق .. ومرت اللحظات ثقيلة طويلة حتى فـُتـِح الباب ، فاندفع داخلاً إلى صحن الدار ، بينما توقفت هى لتغلق الباب من خلفه ، ثم تعود إليه ، فيمسك بيدها ، وتمسك بيده ، ويجلسا تحت العريشة فى الركن تظللهما الأوراق الخضراء للنباتات المتسلقة ، والشجيرات الصغيرة داخل القدور الفخارية الموزعة على طول الجدار المحيط بصحن الدار ..
تسرع شفتاه فتنطق بإسمها ... أ أنت سـَلمى ؟ ! .. فيسكت ولا ينتظر جواباً ..
سكت الإثنان وتبادلا النظرات ، فتطلع إلى وجهها المستدير ، وعيناها العسليتان ، وشعرها الكستنائى ، وقد إنسدل الخمار عنها متوسداً كتفيها ، وقال يسالها : من أنت .. ؟ ! ينفرج ثغرها عن ضحكة وردية تلألأت معها أسنانها البيضاء الجميلة ، فقالت بكلمات تشبه الهمس : أولا تعرف إسمى .. ؟ ! ..
- بلى أعرفه ، وأحفظه عن ظهر قلب .. ولكنى أسأل عنك أنت ، فلا أجد جواباً شافياً لروحى العاشقة .. فأحياناً أراك حورية من الجنة نزلت لتعيش بيننا نحن البشر .. وأحيأنا أراك ملاكاً كحلم من نور قد نراه حيناً ، ويغيب عنا دائماً .. أم تـُرى أنت روعة من الحسن تجلت لى ، بعد أن خبأها القدر زمانا ، وأبداها لى هدية ، لأحيا بها ، ومعها .. قولى لى من أنت .. ؟ !.... تتلعثم على شفتاها الكلمات ثم تتجرأ فتقول له :
- لو قدر لى أن أحيا سعيدة ، فلا تكون سعادتى إلا وأنا معك .. فربما أنا قدرك ، وأنت قدرى .. فأنا التى أحيا على أمل رؤياك فى كل حين .. وأشقى كلما طال غيابك عنى .... تشجعه كلماتها فيقول لها وقد انطلق لسانه :
- لو قدر لى البقاء معك لبقيت إلى آخر العمر إلى جوارك .. وما بعادى عنك عن رضى منى .. ولكنه واقع لا حيلة لى فيه .. بل أسعى لأغيره ..
- إذن ، فكيف السبيل إلى لقياك ، والبقاء إلى جوارك .. ؟
- إلى أن يجمعنا مصير وأحد ، وأمل دائم .. لا أرى إلا أن نتحين الفرص ، ونختلس النظرات ، ونتحين الأوقات التى تجمعنا معاً .. مثل تلك اللحظات التى جاد بها الزمان علينا ..
- لقد غامرت بكل شىء حتى القاك .. ولا أدرى كيف أستطيع أن أكرر ذلك
- أخشى أن أكون قد آذيت صديقى الذى هو أخيك فالتقيتك سراً ، من دون أن يدرى شيئاً .... تقول فى قلق واضطراب ورقة تشبه الهمس :
- لقد أوشك الجميع على العودة إلى الدار ..
- أتمنى لو كنت استطيع أن أبقى معك أكثر وأكثر .. ولكن خوفى عليك يجعلنى أعجل بفراقك على أمل لقاء قريب ..
يقوم من جلسته ، ويسيرا معاً وقد تشابكت أصابعهما ، فيرتجف كفها بين أصابعه ، وعند الباب وقفا .. ونظر إليها ، ورفع كفيها وقبلهما فزاد اضطرابها ، وأحمرت وجنتاها ، ثم استدار مغادراً ، حينما انفتح الباب فجأة .. فالفيا أبوها الشيخ عمر ، وأخوها إسماعيل .. فشهق سعيد مذهولاً ، وسقط على الأرض من فوق سريره ، مع تكبيرة الله أكبر .. الله أكبر .. عند آذن الفجر ..
نظر سعيد حوله فلم يجد إلا جدران الغرفة التى يقيم فيها بالمدارس الأزهرية ، بينما الرفاق ينادون على النائمين .. الصلاة .. الصلاة .. ويتابع المؤذن آذن الفجر ..
لم يصدق سعيد نفسه ، بأنه قد نجا .. وراح يتلفت من جديد فيما حوله ، فتأكد له بأنه لم يغادر غرفته ، وأنه قد نام بالأمس بعد أن فارق أصدقائه ، على موعد باللقاء عند صلاة الفجر ..
ردد سعيد وهو يعتدل على سريره لا حول ولا قوة إلا بالله .. لقد كان حلماً مزعجاً .. وسكت قليلاً ثم قال .. " ولكنه لذيذا أيضاً " .. ثم عاد فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم ..
قام سعيد من على سريره ، وتوجه للوضوء ، ثم ذهب مع رفاقه إلى المسجد الحسينى الكبير ، وصلى مع رفاقه ، ثم عاد إلى غرفته وقرأ القرآن ، فهدأت نفسه واستقر وجدانه .. وأخذ يسال نفسه عن هذا الحلم .. فأسوأ ما فيه هو أن يكون خائناً لصاحبه فيلتقى بمحبوبته التى هى أخت صديقه .. وهذا ما لا يقبله ولا يرضاه على نفسه .. وأجمل ما فى الحلم أنه تحدث لأول مرة مع محبوبته بلا قيود ولا خوف ، فسمع منها وسمعت منه .. وسأل نفسه " .. أيمكن أن يسمع منها يوماً ما سمعه فى الحلم .. أم هو الخيال الجامح البعيد كل البعد عن الواقع " .. ثم تابع سائلاً نفسه .. " .. ولكن إذا كان ما قد حلمت به يجسد حالة حقيقية تختلج فى نفسى وتكمن فيما يبطنه عقلى ، ثم خرجت حلماً رأيته فى منامى .. فلماذا لا يكون ما أشعر به ، هو أيضاً ما تشعر به هى أيضاً نحوى .. ؟ .. وهل هذه المشاعر ، وتلك الكلمات التى رددتها لى فى الحلم يمكن أن تكون واقعاً نعيشه وحقيقة نتمناها .. أم خيالات وأوهام .. أو ربما أحلام نعيشها فى خيالنا ونراها واقعاً فى اليقظة .. "..انتهت..."